Tuesday, March 1, 2011

المعجزة هي ما حدث وليس ماوراء الحدث د. علياء رافع


ظللت أحاضر لسنين طويلة في الجامعة عن التاريخ الحضاري لمصر،  متحدثة عن إمتداد الشخصية المصرية عبر العصور وتطورها عبر الزمان في العصور القديمة والوسيطة، ثم إختفاء معالمها في هذا القرن وما سبقه وتواريها تحت اليأس وخيبة الأمل التي بدأت من النكسة ولم تنته على الرغم من لحظات وضاءة هنا وهناك. لم أكن أتصور أن تلك الشخصية التي قرأتها عبر تاريخها الطويل، والتي تجلت في حضارات متوالية تعبر عن قلب واحد ونبض واحد ستبعث بهذه القوة في لحظة من الزمان لتؤكد وجودها وإمتدادها وحياتها.
كنت دائما أقول أن ما يحدث في مصر الآن هو إرهاصات لثورة قادمة، هكذا علمنى التاريخ، فلقد بدا أن الليل لا ينجلي ووصلنا إلى أحلك الظلمات، بحيث أنه لا يمكن أن يستمر الحال على ما هو عليه، في وسط تناقضات صارخة، فها هي أسرة تملك بزمامها كل شيء، وتستكثر أن يكون هناك منظمات مدنية تقوم بدور الضغط، فتنشيء ما يقال عنه االمجلس القومي لحقوق الإنسان، والمركز القومي للمرأة وغيرها. ضاعت آمال أجيال مثل جيلي في أن تأخذ مكانتها, وهناك ذلك التناقض بين من يملك ومن لا يملك، بين قلة تتاح لها وسائل تعليم ممتازة وغالبية أصبح تعليمها لا يدل على أي مهارة قابلة للإستخدام في عملية الإنتاج لم يكن معقولا أن يستمر الأمر  بهذا الشكل.
وكنت أتوقع إنفجارا أو إنفجارات، وأخشى على بلدي من الفوضى وضياع الرؤية. كان ماحدث في ثورة 1952 يزعجني أكثر مما يطمئنني. كنت أقول أنه إذا حدثت ثورة فإننا لن نعرف في أي إتجاه سنيسير، وهل سنستبدل نظاما قمعي بآخر مثله تحت مسميات أخرى؟  كانت الثورة بالنسبة لي – مع إدراكي أن كل الواقع يدفع إليها -  مغامرة غير مأمونة العواقب. ولذا فإن أملي تركز دائما في ألا نفقد الأمل، وأن نحاول أن نصلح كل على قدره، في كل مجال وفي كل موقع، أملا في أن يحدث التغيير عن طريق بناء قيم العمل والجهاد التي كنت أدرك تماما أنها أيضا مغيبة في الواقع نتيجة لكل الإحباطات التي يمر بها الشعب المصري، ولكن بصيص النور الذي كان يغلفه الإيمان، لم يدع اليأس يتسرب إلى قلبي قيد أنملة.
وبدأت حركت التمرد وإعلان أصوات الإعتراض ترتفع فتكونت حركة كفاية، التي كسرت أول حاجز للخوف من التجمعات التي يعاقب عليها القانون القمعي الذي وضعه النظام، ثم مجموعة السادس من إبريل، وغيرها،  وإستمرت الإحتجاجات في الجامعات والمصانع والمؤسسات المختلفة، وعلى الرغم من أن الكثير منها كان يتوجه نحو مطالب إقتصادية عادلة، ولكنها كانت في نفس الوقت تلفت الإنتباه إلى الظلم الاجتماعي المتفشي في المجتمع بشكل واضح وصريح، وإلى الفساد، الذي كنا نشمه في كل موقع، ولكن لم نكن ندرك أبعادة التي تكشفت بعد ذلك في صورة مذهلة لم أكن – وأزعم أن مثلي كثيرون – لم يكن يدركون حجمها.
مع دخول البرادعي الساحة، تعاظمت الآمال، لأنه إستطاع أن يبلور المطالب الرئيسية التي يجب أن تتغير إتجاها نحو الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وتجمع حوله الكثيرون. ولكن دفع الحركة تباطأ، لأكثر من سبب، أولها أن النظام أخذ يعاقب أنصار البرادعي بقوة ويعتقلهم ويعذبهم، مما جعل الأصوات تخفت بعض الشيء، ولكن النظام لم يستطع أن يقتلها. وكان مقتل حادث خالد سعيد على يد مباحث أمن الدولة حادثا متكررا يحدث في الخفاء، ولكن إكتشاف ما حدث، شجع بعضا من الشباب على التصميم على تغيير النظام. هكذا كانت الإرادة والتصميم هي بداية لثورة، كان الشعب يحملها داخله، ولكن لم يكن يدري كيف يعبر عنها. وفي خط مواز كانت هناك أقلام شريفة، تكشف المستور، وتطلب التغيير بلا كلل ولا ملل، مع تعرضها للتهديد والقمع أيضا. وذخرت الأفلام والمسلسلات بالتعرض لما يحدث في المجتمع من فساد وإفساد.
وهكذا أخذت عوامل الثورة تتراكم شيئا فشيئا، وكانت ثورة تونس نذيرا وشرارة إنطلقت في قلب نظام فاسد أيضا، ولم يأخذ الأمر من تونس وقتا طويلا للإطاحة برئيسها، ولكنها مازالت تعاني من القلاقل حتي الآن. في ذلك الوقت، كانت هناك مناقشات دائرة في مصر حول إحتمال أن تقوم ثورة مثل تونس، ولكنني كتبت بوضوح متمنية ألا يحدث هذا، وأن تكون الثورة من خلال الرئيس مبارك، وكتبت إليه في مقال، طالبة منه أن يعلن بوضوح أنه لن يترشح للإنتخابات القادمة، ولن يترشح إبنه كذلك، وأن يتعظ بما حدث في تونس ويبدأ إصلاحات جذرية في المجتمع المصري، حتي لا تقوم ثورة لن ندري إتجاهها أو مداها.
ولم تكن كلماتي لتعني شيئا، فهي ليست مصحوبة بأي قوى للضغط الشعبي، وهي مقال من مئات المقالات. ويشاء القدر أن تنشر هذه المقالة في اليوم الذي تفجرت فيه الثورة، والتي تنبأت فيها بشيء حقيقي، ألا وهو أن مصر قادرة على أن تستيقظ من ثباتها، وتتقدم بخطي سريعة لا يتوقعها أحد، فهي جسدت أسطورة العنقاء في تاريخها، وهي قادرة على إعادة هذه القصة من جديد. وكانت الثورة بنقائها وتحضرها وقوتها وعنفوانها وإصرارها. وتخلق في رحم هذه الثورة شخصية حضارية تذهل العالم بقيمها النبيلة، وبوضوح رؤيتها وبتضامن القائمين عليها من كل الإتجاهات. كانت الثورة – على غير ما توقعت – هي النور الذي أطل على مصر وعلى العالم، وهي البعث للشخصية المصرية التي قرأت ملامحها مع الأستاذ العظيم الفنان حامد سعيد. إنها معجزة، ليس بمعنى أن ما حدث لا يعتمد على الواقع، ولكن لأن الواقع نفسه بما حمله من مفاجأت غير متوقعة أصبح أسطورة ستعيش دائما. المعجزة هي في  القيم الحضارية التي ظهرت فجأة في الشعب المصري والتي إختزنها في أعماقه، ولم تكن هناك فرصة ليعبر عنها.  إن هذا التآلف الذي صهر الشعب في بوتقة واحدة, وشكلته في كتلة واحدة مرصوصة البنيان في وقت قصير، وبشكل تلقائي هو إكتشاف جديد لروح مصر التي ينبغي أن نحافظ عليها بكل ما إستطعنا من قوة، وقد إقترن الصمود بلإيمان: إيمان بالقضية وحق الدفاع عنها، وإيمان بالله في توكل وتسليم له بصرف النظر عن الدين أو المعتقد.
وجاءت المفاجأة الأخرى التي لا تقل عن الأولى عظمة وإكتشافا، ألا وهي أداء الجيش المصري  جاء بشكل رفيع المستوى، الذي أدركت وقد يكون غيري قد أدرك مثلي أنه إنحاز إلى الثورة منذ أول بيان أطلقه، أنه لن يقف في طريقها ولن يستخدم العنف مع شعب مصر العظيم ومطالبه العادلة. وكان هذا الخطاب مختلفا تماما عن خطاب الرئاسة الذي أصر منذ اللحظة الأولي أن يتحدث عن الثورة بإعتبار أنها فوضى، بل ويخلق فوضي  متعمدا ليبرر كل الوسائل القمعية التي كان يخطط لأتخاذها. وإنتظر الجيش حتي تبلغ الثورة مداها. وأرسل رسالة قوية إلى رئيس الجمهورية يوم العاشرمن فبراير، حيث إنعقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة وأصدر بيانه الأول، وقال أنه في حالة أنعقاد دائم، أي منتظرا لموقف واضح يحدده الرئيس. وكلنا يعرف الخطاب المحبط في هذا اليوم.   كان واضحا أن الرئيس قد ضرب برسالة المجلس الأعلى للقوات المسلحة عرض الحائط في هذا الخطاب.  وحمل لنا يوم الجمعة الخبر العظيم بتخلي رئيس الجمهورية عن منصبة. 
وكانت هذه أيضا معجزة أخرى، لأن هذا القرار في سياق خطبة الخميس بدا وكأنه تغيير جذري عن موقف الرئيس يوم الخميس. ويظل السؤال ما الذي حدث في خلال أقل من 24 ساعة؟ لا شك أن الجيش قد لعب دورا هاما في إنقاذ البلد من إنقسامات داخل الجيش، أو صراع مع الشعب، ومثل قوة ضغط على الرئيس. ولا بد أن نحني رؤسنا إجلالا وإحتراما لجيش مصر العظيم.
وتظل هناك ألغاز لا نستطيع أن نستوعبها، وما يجري وراء الكواليس غير واضح للشعب تماما.  إن ثقتنا في الجيش عظيمة، ولكن الخطوات الحاسمة التي كنا ننتظر أن يتخذها الجيش تأخذ وقتا أكثر مما يتحمله الموقف. وهي خطوات من شأنها أن تدعم الإستقرار، على عكس ما يقال. لا أظن أن إقالة حكومة شفيق فورا بما فيها من عناصر غير موثوق فيها أمرا يخل بالنظام. أولا لأن هذه الوزارة قد فقدت شرعبتها بالفعل، وثانيا لأن إختيار عناصر صالحة لتشكيل وزاري جديد ليس معضلة على الإطلاق. وهناك جريمة واضحة في حق مصر كلها واضحة وليست في حاجة إلى أدلة، وهي تتمثل في إستخدام القوة الغاشمة وإختراق كل المواثيق الدولية يوم 28 يناير، والثانية هي قرار إنسحاب الأمن حتي من حماية حدود مصر، مما عرض الأمن الداخلي والخارجي للمخاطر, لماذا لم يحدث توجيه إتهام إلى وزير الداخلية السابق الذي يحمل مسئولية مباشرة عن هذين القرارين؟ إنه لغز لا نستطيع الإجابة عليه. ونأمل أم تكون هناك إجابة واضحة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أو أن تكون الإجراءات قد بدأت بالفعل عند نشر هذا المقال.

No comments:

Post a Comment