لنقرأ
رسائل الثورة مجددا فقد يكون لنا فيها مخرجا
د.
علياء رافع
عندما
قامت ثورة الخامس من عشرين يناير اهتز لها العالم أجمع، ولم تر فيها شعوب الأرض أنها مجرد انتفاضة شعب
من أجل الثورة لحريته وكرامته، ولكنها رأت فيها أملا للبشرية جمعاء. وذلك لأسباب
عديدة، نذكر أنفسنا ببعض منها. أولا أنها لم تكن ثورة قد تم الإعداد لها مسبقا
بشكل تنظيمي، وإنما ما تم الإعداد له دعوة لتظاهرة يعبر فيها الشباب بشكل خاص عن
رفضهم لنظام بوليسي قمعي، ويدعون إلى عدد محدد من الطلبات، ولكن تحولها إلى ثورة
لم يكن يتوقعه أحد. ولم يتوقعه المحللون
السياسيون، على الأقل لم يكن يمكن أن يتبادر إلى ذهن من يتحدثون ليلا نهارا عن
المتغيرات الاجتماعية والسياسية والعلاقات الدولية والاحتمالات والسيناريوهات
المتعددة، أنه من الممكن أن تخرج الملايين
دون إعداد أو تحضير. وبعد الحدث العظيم،
انبرت العقول ترصد وتحلل وتتوقع وتنصح. وكانت إرادة الشعب وتصميمه تعبيرا رائعا عن
دعم القوى الغيبية العظمي. واستطاع الشعب العظيم أن يقوى موقف الجيش الذي كان يخشى
توريث الحكم ويرفضه، ووجد في هذه اللحظة فرصته الكبيرة. هكذا أراد الله بمصر خيرا.
وفي خلال ثمانية عشر يوما خرج طاغية من
الحكم مذموما مدحورا. كانت الرسالة هي "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن
يستجيب القدر، ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر".
ثانيا
تلك الثورة العظيمة لم تكن لها قيادة مركزية تقودها، وإنما كانت حركة الجماهير
تلقائية وطبيعية، وهذا مما أظهر للعالم طبيعة شعب مصر، الذي يصبر طويلا، ويظن به
الآخرون أنه شعب يقبل القهر والظلم، وتكشف الأيام عن أصالته وشجاعته. ولم يكن صبره
يوما متناقضا مع شجاعته وإقدامه، لأنه شعب مؤمن، لا يعيش الإيمان زيفا أو كلاما أو
شكلا، ولكنه يعيش الإيمان حياة ورؤية واتجاها وتوجها. ففي صبره يحتسب إلى الله.
وفي إقدامه إلى حد الإستشهاد يجأر إلى الله. هذه هي طبيعة الإسلام والمسيحية معا
في شعب مصر، فهو يشترك في سمات واحدة لعقيدته وإن اختلفت أشكالها وتباينت. ولذا لم
يكن غريبا أن يقف المسلمون ملتفين حول
المسيحيين عند القيام بالقداس، ولم يكن غريبا كذلك أن يقف المسيحيون وراء المسلمين
عند إقامتها للصلاة. لا يصح أن نطلق عن هذا تسامحا، لأن المسلمين والمسيحيين في
أعماقهم لا يفرقون بين بعضهم البعض، إنهم كتلة واحدة وقلب واحد.
إن
الرسالة الثانية التي أعطاها لنا هذا المشهد أن الدين الحق تحت كل الأسماء يؤكد
"الإيمان بالله" قوة تقوي العزم وتشحذ الهمم، وليست شكلا يتجسد في نقاب
وإطلاق لحية، وتقصير جلباب، وتعليق صليب أو قرآن، تأكيدا للفرقة وإدعاء بالأفضلية.
هذه الرسالة هامة للغاية في ذلك الوقت الذي يشيع فيه السلفيون مظاهرا تفرقهم عن
سائر الشعب، مستخدمين في ذلك شعارات لا يعيشونها، مثل شعار "الحرية"،
وهو بالنسبة لهم وسيلة كي يمارسوا فكرهم وطريقتهم، وليس غاية يحترمونها لأنفسهم
كما يسعون لتحقيقها لغيرهم، وكيف تكون غاية وقد قرروا واتخذوا موقفا ثابتا من
الذين ينهجون غير نهجهم من المسلمين، فيطلقون عليهم في أحسن الأحوال أنهم جاهلون
بأمور دينهم، وقد يصل بهم الأمر إلى وصمهم أنهم غير مؤمنين، وأما غير المسلمين
فإنهم يعتبرونهم "كفارا"، هذا شأنهم في السعودية وشأنهم في كل مكان
يتواجدون فيه. إنهم يعتبرون أنفسهم في حال هدنة مع هؤلاء الكفار، ويتناسون أن الله
وحده هو الحكم، وأنه تعالى ليس له شريك في الملك وليس له ولي من الذل. إذا تذكرنا
رسالة المحبة والسلام، رسالة المسيحية والإسلام وأننا في الثورة قد أظهرناها
وأكدناها، لعلها تكون لنا تذكرة نخرج بها من الانجراف نحو التنابذ بالألقاب، ونحو
التفرقة بيننا، ونعود مرة أخرى للتآلف والتآخي.
ثالثا لم
تستخدم الثورة العنف، ولأنها كانت ثورة شعب
فإنها اتسمت بالسلمية، ولهذا فإنها حفرت لها مكانا عميقا في تاريخ الشعوب،
وكما قيل فإن التاريخ كتب صفحة ناصعة عميقة لهذه الثورة ستظل في وجدان الإنسانية،
مؤكدة أن السلام وحده هو الطريق إلى التغيير، وأن العنف لا يتولد عنه إلا العنف.
رابعا:
السلوك الرائع للشعب في ميدان وميادين التحرير كان سلوكا يعبر عن تحضر شعب على
أرقي ما تكون الحضارة. في وسط هذه الملايين، لم يحدث تحرشا، ولم تسجل حالة سرقة
واحدة. كان الجميع كتلة من التعاون والتآلف. وكأن الأرض قد تحولت إلى الجنة
فتحيتهم فيها سلام. وشاعت جو من السكينة، شعر بها الجميع وتحدث بها الجميع، فتحول
المكان إلى بقعة مباركة قدسية. وكأن الله خاطبنا في تلك اللحظات مؤكدا أن الأرض
يمكن أن تكون غير الأرض. إن تلك الروح هي
انعكاس لتألف هذا الجمع على هدف واحد، ذابت فيه الأهداف الجزئية الشخصية، وأصبحت
الحرية والكرامة الإنسانية رؤية تحرك تلك الجموع، ولا تجعل للحياة قيمة أو معنى
إلا بها. تصبح الرسالة الرابعة في هذا المشهد الطوباوي، أن حلمنا أن تكون مصر
تعبيرا عن الحضارة الإنسانية التي تعيش في قلوب الشعوب في كل مكان. وأننا شعب قادر على تحقيق هذا الحلم.
إنني
أذكر نفسي وأذكر قارئي بهذه الرسائل الهامة التي يجب أن نعيشها مرة أخرى، ذلك أن
شبح الإحباط واليأس قد بدأ يدب إلى القلوب، ونغمة أن الرئيس والحكومة سيقوموا
نيابة عنا بكل شيء ملأ الأفاق، وخطاب المنة، ونبرة السيطرة بدأت تعلو رويدا
رويدا. وبدلا من قراءة الرسائل التي
يرسلها الشعب هنا وهناك في شكل إضرابات، واعتراضات، ونحاول أن نقنن وننظم ونستمع،
إذا بالحكومة تلوح مرة أخرى بالقوانين المجحفة التي تريد أن تكمم الأفواه.
نريد
للثورة أن تحقق أهدافها، وأن يشعر الشعب أن الزمام بيديه، فلا نخسر زمنا آخر من
تكسير إرادة هذه الشعب العظيم، الذي لن تنكسر إرادته أبدا بإذن الله تعالي.